من دون أن ننهض من السرير؟
لطالما كان هناك طموح إنساني جامح لاحتواء مختلف أنواع المعرفة في العالم في مكان واحد. ويعود هذا الطموح إلى آلاف السنين، من أول مكتبة في التاريخ وجدت في معبد في مدينة نيبور البابلية التي يرجع تاريخها إلى النصف الأول من الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتحتوي على غرف مليئة بألواح طينية سجلت عليها نصوص اقتصادية ورياضية وفلكية وأدبية وزراعية، إلى مجموعات مماثلة من الألواح الآشورية من الألف الثاني قبل الميلاد في تل العمارنة في مصر، إلى مكتبة الإسكندرية التي تأسست في القرن الثالث قبل الميلاد والتي تُعد أول نموذج للمكتبة الحديثة، إذ كانت تحتوي على أكبر مجموعة من الكتب في العالم القديم، وصل عددها إلى 700 ألف مجلد بما فيها أعمال هوميروس ومكتبة أرسطو.
بعد مكتبة الإسكندرية، انتقلت الشعلة إلى مدن وقصور ومقرات أخرى وأصبحت شواهد على تحضر المدن وثرائها، كما هو حال مكتبة دار الحكمة في بغداد. ولكن جميع هذه المكتبات بقيت بمثابة أماكن سرية مخصصة للنخب الفكرية، تفتح أبواب المعرفة أمامهم دون غيرهم. وبما أن الوصول إلى المعرفة كان يُعد أمراً خطيراً لا يمكن وضعه في متناول الجميع، وذلك حتى حلول عصر التنوير في أوروبا، العصر العقلاني المستند إلى المعرفة، ففتحت أبواب المعرفة أمام الجميع، وأزيلت القيود من حول الكتب، وبدأ عصر تنوير العقول على المستوى العام. وقام الفيكتوريـون لاحقاً في إنجلترا بإنشاء المكتبات بوصفها محركات للتطور، ولتشهد على دينامية مدنهم الصناعية الجديدة. فأصبحت المكتبة واحدة من المساحات القليلة التي يمكن للناس أن يشعروا فيها أنهم مواطنون بكل معنى الكلمة.
لكن اليوم، أصبحت المكتبات العامة أمام تحديات وجودية. إذ مع بداية القرن الواحد والعشرين ومع ازدهار العصر الرقمي، تغيرت طريقة الوصول إلى المعلومات واستهلاكها بشكل كبير كما بات معلوماً. فقد مكّنت شبكة الإنترنت ووسائل التكنولوجيا المساعدة الأخرى مثل غوغل أي شخص من قراءة أي كتاب أو مقال تم نشره تقريباً. فالإنترنت تقدِّم ثروة من المعلومات لا يمكن لأي مصدر آخر أن يضاهيها، خاصة وأنه يتم تحديث المعلومات والبيانات فيها بشكل مستمر على مدار الساعة. فآخر طبعة "للموسوعة البريطانية" مثلاً، التي صدرت في عام 2010م، وتضمنت 40,000 مقال من إعداد 100 محرر بلغة واحدة، لا يمكنها أن تضاهي "ويكيبيديا" التي تضم 35 مليون مقال يتم تحديثها باستمـرار من قبل 69,000 محرر مستقل بنحو 288 لغة. وكل ذلك يدفعنا لنسأل: من منّا سيكون بحاجة إلى المكتبات بعد الآن؟ وهل ستكون المكتبات من بين الضحايا العديدة للثورة الرقمية؟ وهل هناك أي مستقبل لها؟
يشير الواقع الحالي إلى أن المكتبات لم تختفِ، بل أخذت تواجه الواقع الجديد من خلال إعادة صياغة مضمونها ودورها وحتى أشكال تصاميمها الخارجية. ففي مواجهة الثورة المعرفية الرقمية اختارت المكتبات أن تتأقلم مع الواقع الجديد، وراحت تتحوّل بنجاح إلى العصر الرقمي من خلال تأمين مجموعة واسعة من الموارد المتوفرة رقمياً ووسائل التواصل المتعدِّدة، وأصبحت تستحوذ على مزيد من الأقراص المدمجة والكتب الإلكترونية وكثير من أجهزة الكمبيوتر. ومن أجل ذلك، أصبحت تلجأ إلى الأفكار المبتكرة لتغيير مواردها ونماذج البرمجة المعتمدة لديها ومجموعة الخدمات التي توّفرها.
تطرح هذه التحولات والمساعي إلى مواكبتها تحدّيين اثنين أمام المكتبات: الأول، يتعلّق بتحوّل صناعة النشر من الطباعة إلى المواد الإلكترونية، وبالتالي تخبّط هذه الصناعة بمدى السماح للمكتبات بشراء وتوزيع وتحميل الكتب الإلكترونية لتلبية طلبات القرّاء.
والثاني، يتعلق بإعادة تعريف القيّمين على المكتبات لمفهوم "المجموعة المكتبية" المتوفرة لديهم من خلال إيجاد التوازن بين ما هو مطبوع وما هو متوفر رقمياً، وامتلاك المواد بأشكال مختلفة، وذلك لتلبية احتياجات وأولويات المجتمعات المحيطة بها. وبغض النظر عن أي تحدٍ ماثل أمامها، فمن المهم أن نتذكّر دائماً أن المكتبات ليست مجرد أمكنة لقراءة الكتب من دون أي مقابل، كما تقول نورا دالي، أمينة المكتبة الرقمية في المكتبة البريطانية، بل هي، حسب دالي: "موجودة لتجمع، وأحياناً، لتستحدث المعرفة، ولتحافظ عليها، ولتساعد في انتشارها ودعمها وتضمن الوصول الحر والمثمر إليها، بغض النظر عن الشكل الذي تعمل فيه".
أوجب الأمر إعادة النظر في الخدمات التي تقدِّمها المكتبات بشكل عام. ففي عام 2012م، نشر "مجلس الفنون" في إنجلترا مجموعة واسعة من الأبحاث التفصيلية، تصور شكل "مكتبة المستقبل"، بهدف إعادة صياغة دورها. وخلصت هذه الأبحاث إلى أنه، بالإضافة إلى التأكيد على الحاجة لوجود المنشورات الورقية والرقمية جنباً إلى جنب، على المكتبات الحديثة أن تقدِّم خدمات أكثر تناغماً مع الاحتياجات والتطلعات الخاصة للمجتمعات التي تخدمها، وأن تحقيق ذلك يتوقف على مشاركة المجتمع في الأنشطة المختلفة التي تقوم بها المكتبات.
وبالفعل نشأت مؤخراً مكتبات حديثة عديدة حول العالم، تجاوز دورها الاطلاع على المعرفة فقط. وقد صُمِّم كثير منها ليقدّم خدمات متنوعة، مثل الأنشطة المخصصة للأطفال وقراءة الكتب وورشات عمل مختلفة، كما تضمّن بعضها مساحات مخصصة للأبحاث والدراسات والتعاون والتواصل العالمي، وضم بعضها الآخر مراكز للنشر ومختبرات للتعلم الرقمي. وكل هذه الأنشطة أخذت تستقطب شريحة كبيرة من المجتمع المحيط بالمكتبات، للالتقاء والتفاعل والتبادل الثقافي. وبالتالي، نجحت في المساهمة في الحياة المدنية وبناء العلاقات. ولذلك أهمية خاصة، لا سيما في زمن تزايد الفردية في الحياة الاجتماعية. وحول هذه النقطة يقول أمير موسوي، أحد مصممي مشروع مكتبة بغداد الجديدة في عام 2013م، لتحل مكان المكتبة الوطنية في العراق التي دمرت في عام 2003م، والتي ستفخر باحتوائها على أكبر غرفة قراءة في العالم: "المكتبات، تقليدياً، هي أماكن غير اجتماعية، لا تسمح بإقامة المحادثات الكلامية. ولكن الأمر تغير كثيراً ولم تعد المكتبة كذلك. فلا يوجد في بغداد الكثير من المساحات العامة التي تسمح بالتواصل الاجتماعي، وعلى مكتبة بغداد الجديدة أن تكون واحدة منها".
بالإضافة إلى كل هذه الخدمات الحديثة، صُمِّمت بعض المكتبات الحديثة لتكون جزءاً من مستقبل اقتصادي أفضل، مثل مكتبة برمنغهام في المملكة المتحدة التي افتتحت في عام 2013م واعتبرت أكبر مكتبات أوروبا من حيث المساحة، وخصصت لها ميزانية وصلت إلى 188 مليون جنيه إسترليني، وتضمنت مركز دعم تجاري هو عبارة عن طابق كامل يأمل من خلاله القيمون على المكتبة بإطلاق 500 مؤسسة تجارية عالمياً.
ولم يكن دور هذه المكتبات الحديثة هو الذي تغيَّر فقط، بل اختلفت تصاميمها الخارجية اختلافاً كبيراً عما كانت عليه في السابق، وابتعدت كثيراً عن مفهوم المكتبات الكلاسيكية التي كانت تنضوي على غرف معتمة مليئة بالرفوف الخشبية التي تحمل سلاسل من الكتب المجلّدة والمرقمة، يديرها أشخاص يتميزون بالجدية والصرامة وكأنهم قادمون من عهود مضت. فأصبحت المكتبات شاملة وجذابة، ذات مساحات رحبة، وأقرب إلى مراكز ثقافية على طراز الهندسة المعمارية المعاصرة المستخدمة في المحلات والمراكز التجارية. وهذا ما جعلها منفتحة أكثر على الخارج، مضاءة وشفّافة.
وقد يكون المثال الأجمل على ذلك مكتبة سياتل العامة في الولايات المتحدة الأمريكية التي بنيت في العام 2004م، حيث اعتبر بناؤها من المباني الأكثر ابتكاراً وثورية في العصر الحديث. وقد اشتهرت هذه المكتبة بغرف القراءة ذات الأسقف الزجاجية التي تجذب إليها الأشخاص من مختلف الأعمار والفئات المجتمعية، كما يمكن للناظر من الخارج رؤية حركة المصاعد الكهربائية في داخلها، الأمر الذي من شأنه أن يجذب المارة إليها، تماماً مثلما تفعل المراكز التجارية ومراكز التسوق.
إن كان على الطراز الحديث أو التقليدي، يُعد هذا الانفجار الأخير في بناء هذه المكتبات الضخمة في القرن الواحد والعشرين دليلاً ساطعاً على بقاء المكتبات وازدهارها كجزء لا يتجزأ من إيقاع المدن ونبضها الحيوي. فكما مثّل العصر الحديث تحديات عديدة للمكتبات، إلا أنه قدَّم لها فرصاً كبيرة لتبقى وتزدهر.
ولكن بعيداً عن استحداث كل هذه المكتبات الرائعة حول العالم المختلفة في دورها ومضمونها وتصاميمها الخارجية، بقيت المكتبات تنتشر حول العالم حتى في أشكالها التقليدية الكلاسيكية. وقد يكون آخرها وأكثرها فرادة مكتبة نشأت في العام الجاري 2018م في مدينة أنقرة التركية، وأسستها مجموعة من عمال النظافة في المدينة عندما لاحظوا أعداد الكتب التي يتم رميها في سلة المهملات، فقاموا بجمعها وأسسوا مكتبة متواضعة تضم عشرين كتاباً في مبنى قديم تابع لإدارة عمال النظافة مخصص لهم ولعائلاتهم. إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى وصلت أعداد الكتب فيها إلى 6000 بعدما سمع عنها السكان المحليين، وبدأوا بالتبرع بمزيد من الكتب مباشرة إلى المكتبة. وربما لن نجد صورة أوضح وأبهى من هذه المكتبـة من نتاج سلة المهمـلات لتقـول لنا إن المكتبــات هي هنا لتبقى وتستمــر كالشاهد الأمثل على تحضر المدن وتقدُّمها.
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية